اخر الاخبارمقالات

( نَزفُ الرُوح )

بقلم : مبدع

سَمِعنا وشَعرنا بِكَسرة النَّفس والقلب، وسَمعِنا وشَعرنا بجُرحِ القَلب ونزفِه .. لكِن هل سمعتُم وشعرتُم بنزفِ الرُوح ؟!

الروحُ كَما الجَسد والقَلب، بل أعظَم؛ تُخدش وتُجرح وتَنزِف، ولكِن جارحها ليسَ بعيدا عنها، ولا مِن خارجِها، بل هو الإنسان ذاته!

قد تجلِس في أفخَم مكاَنٍ، وتُشاهد أجمل المناظر، ولَكن روحُك تنزف!
قد تكُون فُكاهيا لا يُشق لك في ذلك غبار، وتَضحك بأعلى صوتك، لَكن روحك تنزفُ!
قد تُحَقق الإنجازات، وتُحقق كل أحلامك، وتَسعى للمزيد، ولَكن روحك تنزف!
قد تُحاط بمَن تُحب مِن أهلك وأصدقائك، ولكن روحك تنزف!
قد تَعتلي أكبر المناصب، وتكُون من أعظم الشخصيات وأقواها، ولكن روحك تنزف!
الحياةُ مشعةُ، وأرواحُنا مظلمة، الجسدُ ممتلىء صحة وجمالا وبهاء، والروحُ ذابلة تَشق طريقَها ببطءٍ للهلاك!وعلى الضفة الأخرى:

تَجده مُطرقا رأسه، يعلو الهُدوء مُحياه، مُعتزلا في داره، لا يتحدث كثيرا، وربما لا يعرفُه إلا أهله، ورُبما يكُون فقيرا أو مريضا، لكن روحه مشرقة، لا يُبالي في أي وقتٍ يموت، ولا في أي وقت يخسر، ولا يُبالي بما قيل، وبمن قال، لا يعبأ بأحد، ولا يَرى نفسَه فوق أحد، منسجم مع نفسه، زاهد في قادمه، وليس له إلا ساعته..
يجد ُأنسه وراحتهُ في صلاة تُزمل روحه، وسجودٍ خاشع يتحدث فيه مع الله، أو ذكر يردده بلسانه وقلبه، لا يخاف من أحد، ولا يُعظم ولا يرجو أحدا سواه..
حياته قائمة على علاقته مع العظيم، فإن قَصر في شيء مما اعتاده ذلك اليوم سقط وخَارت قواه..
لا يُحزنه فوات مطلوب من الدنيا، أو حصول مكروه؛ تسليما لله وثقة به..
أَعظم مصائبه وفواجعه أن تفُوته صلاة أو وردا يوميا اعتاده، أن يَشعر بأن القوي الغني العزيز أبعدهُ وأقصاه..
قد تَجده رث الثياب، وقد تراهُ دميم الملامح، وقد تجده في وضيعِ المهن، لَكن روحه عظيمة، وقلبه كبير؛ يرحم القوي والضعيف، الغني والفقير، الصحيح والمريض، يَنظر للعاصي نظرة رحمة وشفقة؛ أن فاته كل هذا! نور قوة اتصاله بالله يشعُ منه إشعاعا لطيفا، وجمال التَسليم له يكسُو مُحياه فترى الوضاءة والوداعةَ تخرج من خلاله، يقول فتَسمع، يُذكّر فتخشع، يعظ فتخشى؛ صدق الإيمان وحرارته، وعمق اليقين ورسوخه، يجعله مُهابا وإن لم يكن كذلك.

نَزف الروح يأتي ويذهَب بحسبِ قوة اتصال المرء بربه، يبدأ بالتقصِير في الأوراد اليومية، ومِن ثم الاستغناء عن الدعاء أو إهماله، ثم التفريط بصلاتي الضحى والوتر، ثم ترك بعض السنن الرواتب، وهلم جرا.. حتى يَجد نفسَه في مكانٍ لا يعرفه ولا يشبهه، بروح لا يفهمها ولا يطمئن إليها.. وقد يَتسع الشق؛ فيطمئن، ويزداد ابتعادا، لكِن الروح نازفة، يلتفت إليها عاجزا عن مُدواتها ومُدارتها، وعاجزا عن الرجوع..
يَقف حيًا ولا حياة، مُبتسِما ولا سعادة، لاهيا بمُتع الدنيا ولا استقرار، يَنشد الطريقَ ولا يجده، والحِلم ولا يستطِيعه، والخُلق الحسن ولا يطيقه، والرحمةَ وما أبعَدها عن قلبه، واللطف وما أقصَاه عن طريقه!

ذلكُم هو الخسران المبين حِين يَخسر ويفقد المرء نفسه؛ فَيجدها في وقتٍ مُتأخر في سَراديب الظَلام، ومتَاهات الضياع..
ذلكُم شيء من نزفِ الروح، وما أعجز الكَلمات عن الإحاطة به.. شيء تحسُه ولا تراه، تشعُر به وتعجز عن إدراكه..

……

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى