الكانون و الدافور بمطبخِ مكة كان يَغلي و يَفور
بقلم :د.إبراهيم عباس نــــَتـــّو، “بجامعة البترول”.
كنا نطلقُ لفظة (دافوُر) على مَوقدٍ مَعدني جاءنا اسمه، “ديفور’، من الفرنسية Defoure؛ و كان أداةً رئيسةً لطبخِ الأطعمة و تسخين السوائل. لكن، و كما في الصورة المصاحبة فإنّ ‘الدافور’ يظهر هنا ناقصاََ شَبْكاََ معدنياََ دائرياََ يُثبَّتُ في أعلى هذا الجهاز على الأسياخ المعقوفة الثلاثة لكي تستقرَّ فوقَها أوعيةُ الطبخِ مثل القِدر (ينطقُ في الخليجية ‘الجِدِر؛ و بالقصيمية: الدِزدِر Dzidir)، الذي بالطبع هو إناءُ طبخِ أو تسخينِ الأطعمة.
كما و كنــّا في مكة نستخدمُ’ الدافور’ يومياً لعِدة مرّات خلال اليوم لتسخين الماء في آنية أسميناها: ‘كــــَفـــَتيرَة’، و أصلها في الفرنسية كافيتيير Cafetiere، و هي غلّاية/وعاء لتسخين بل لتفوير الماء.. و ذلك اثناء تحضير الشاهي (الشاي) و غيره.
و كانَ (الدافور) أداةَ الطهو الرئيسة في مطابخنا لعشرات السنين، و ذلك بَعذ فترات التحول -في قديم القديم- من الطبخ مباشرة على الحطـَب و ثلاثة جدارٍ ٍصغار؛ ثم على الفحم المرصوص على ‘كانون’ (و جَمعُه كــَوانين) الذي كان الواحد منها يُصنَّع من نصف او ثلث تنكة tank (صفيحة/علبة السَّمِن الكبيرة الفارغة)؛ ثم جـَلَبنا الدافور فحَلَّ سريعاََ محلَّ الكانون الذي استمر كأداة الطبخ في زمانه لمدة طويلة.
و عبرَ السنين في تراث مكة، (هـَبْ ما بين مطلع القرن العشرين و أواسطه) كانت لفظة الكانون في اللهجة المَكـّاوية (المكيّة الحضرية) تتغلغلُ برسوخ في بيوت مكة القديمة و في لهجتها؛ بل كــُنّا نَسمع حتى عباراتٍ نسوية كقول عجوز عن شخص لا تــُحــبُّه: ‘لا تجيبوا لي سيرته، عسى زِكرُه (ذِكره) في الكانون!’ أي عسى ذِكرها يستقرُ في النار.. او حتى في جهنم!
كما و لقد تفاعلَ لفظُ (الكانون) في اللهجة المكية أيضاََ في مجال الذكور و تعدَّى سياق مواقد الطبخ و فحمها، فكان يقال (عادةً بين الرجال، و في لحظة تجمَعُ بين الغِيبة و التندّر.. عن زميل لهم: (‘هادا نــَجمُه ‘كـــَوانيني’: أي أنه يُفضّلهن سَمراوات!
ثم جاء (الدافور) فحــَلَّ بسرعة محلَّ (الكانون) كأداةٍ مُوقدة للطبخ، و ذلك حتى أواخر خمسينيات و أوائل سِتــّينيات القرن العشرين. بعدَها بدأ استيراد و انتشار البُتاگاز Butagaz كموقدٍ حلَّ محلَّ الدافور و ليكون أداةً رئيسةً للطبخ و التسخين. (بعدها صار الدافورُ مستعملاََ ربما في طلعات البَر حصراً).
و لفظة البُتاگاز جاءت من فرن گاز البيوتين: Butene Gas.. ثمّ اختُزلت العبارة في البُتاگاز Butagaz. و يستمر موقد الطهو هذا في جلِّ مطابخنا إلى يومنا هذا، حتى بعد بدء التطور الأخير باستخدام المَوقد الكهربائي الذي استمر يُدعىَ -هو الآخر- بالبُتاگاز Butagaz.. فاستمر هكذا: (بُتاگاز كهربا).
و من المثير في هذا المجال أنه بالرغم من هذه التطورات الخمسة عبر التاريخ في أدوات/مواقد الطهو: من (حِجار) الطبخ مباشرةً على الحطب؛ إلى (الكانون) المعتمد أساساً على الفحم؛ إلى (الدافور)، المعتمد على سائل الكيروسين؛ إلى (البُتاگاز) المعتمد على گاز البيوتين؛ وُصولاََ إلى (بُتاگاز) الكهرباء، إلاّ انك ستجد -إلى اليوم- حنيناََ إلى قديم الطبخ على الفحم. فتسمع نبرةً خاصة من البائعين (مع إلتذاذٌ مُوازٍ من المشترين) في عبارات مثل ‘كباب مشوي على الفحم’؛ أو حتى في عبارة ‘هامبرگر مَشوي على الفحم’! او حتى في ‘شاهي مُحضَّر على الفحم!`
(كما و لقد كنتُ قد سمعتُ بمثل هذا قبل 60 سنة، أيضاََ في أمريكا، في عبارةٍ مثل: Charcoal-grilled Hamburger.
و تجدُ إزاءَ هذه العبارات أثراََ مُحبباً إلى نفس الزبون، طعماََ و نكهة: و كأنّ فيه حنيناً للماضي.
و يبدو أنّ لإيقادِ الفحمِ حاضراً باقياً بين بعض شبابنا و بعض المدمنين على تدخين الشيشة (الأرگيلة) من شيبنا، فتجدُ اولاء و أولئك يحرصون للأسف على إشعال الفحم عند ‘تعمير رأسِ’ الشيشة.. بما يضرُّ صدورَهم و البيئة!!
و فترة إستعمال (الدافور) لم تكن وجيزة؛ و كانت في منزلة تاريخية بين منزلتين: فترة الحطب مع الثلاثة حِجار.. و فترة الفحم فوقَ الكانون، من ناحية، و فترة البُتاگازين.
و صاحَبَ فترةَ الدافور نشأةُ مِهنةٍ بين فئة العُمّال بمسمى (مُصلِّح الدَّوافير).. و اختصّ فيها عددٌ من إخواننا فلسطينيي بـُعيدَ نكبة ١٩٤٨م. (هي ذاتُ الفترة التي نشأت فيهم أيضاََ فئة مُصلِّحي إطارات السيارات و (وِرَشُ) [البـَنشَر]، و أيضاً فئةُ صائني مكائنها.)
و بالنسبة للعاملين في صيانة الدوافير ذاتها، (و أيضاََ الأتاريك و الفوانيس) فكانت لهم اكشاكٌ و حوانيتٌ في جهاتٍ بمكة يرعاها من اختصّ في (صيانة) الدافور.. من تسليك رأسه او حتى تبديله و خاصة عند تراكمِ إنسداد ذلك الرأس.. (حتى رغمَ توافر ‘إبــَر’ التسليك في كلِّ بيت.) بل إنّ من أولئك الصائنين مَن كان يَجولُ في حواري مكة و ينادي: ‘مُصلِّح دوافير (‘الكاز’)/الگاز’.
و من ذكرياتي مع (الدافور) و أنا صغيرٌ في متجر والدي أن كان ضِمنَ تدريباتي و واجباتي: تسخين (كفتيرة) الماء على (الدافور) قبيل تناولي الفطور مع ابي و مساعده عيسى التكروني. كما و كان عليّ أن اذهبَ لشراء الفول في صحن كبير عميق من معدن ‘التُّوتوَة’ (ضرْبٌ من معدن القصدير) و كانت قيمة الفول ٤ قروش (بـِــِراصْها/برأسِها (أي: قطعة معدنية واحدة من فئة الأربعة قروش)، و ذلك من فَوّالٍ على بُعد 6 دكاكين من محلّنا، و صاحبُه العم عمر باريّان.
و أيضاََ كان عليّ ‘تلقيم’ بـَرّادِ الشاهي (الشاي)، أي وضع حِفنة منه، ملء وسط الكف؛ ثم صَبُّ فنجانٍ من البـَرّاد لوالدي (و لاشيءَ لي.. فإنّ الأطفال عليهم الامتناع عن القهوة و الشاي). و لكن ما زاد الطينَ بلــّةً في تعبي هو أنْ كان العم علي زواوي، (و هو جارٌ لنا في سن جدي و صاحب العمارة فوقَ محلنا)، كان يمرُّ علينا متأخراً، و يأمرُني والدي بـ(مباشرته)، أي بتقديم فنجانٍ له؛ و كان العم علي يرُدُّ فنجانه إليّ فورَ بدء أول رشفة لأنـّه يحب شاهيه خفيفاََ؛ فكانَ يوجّهني بتخفيفه؛ و أعودُ -مقهوراً- لأجدُ الكفتيرة و قد برُد ماءُها.. و أني سأكونُ في حاجة لتسخين الماء.. بعد تشغيل (الدافور) من جديد!!