“حمود البراهيم”.. العصامي الذي باع منزله وأسس “بنده” وأدخل “البرجر” إلى المملكة
يتذكر أفراد المجتمع بحب وألم محفوفين بصادق الدعوات، شخصية سعودية عظيمة تعلق بالله، وأحَب وطنه وأخلص لقيادته وصنع نفسه وأولاده ومجتمعه، وسن سنةً حسنة سار على دربها وزراء ووزارات.. فتحت البيوت، ومكّنت الشباب من فرص العمل وهي نظام “السعودة” التي سنها الراحل الشيخ حمود بن سعد البراهيم الغائب الأكبر عن رمضان هذا العام 1442هـ.
وعلى طرف هضبة نجد الجنوبية الغربية وتحديدًا قرية “رنية” التي تبعد عن مكة المكرمة 500 كلم، وأصبحت فيما بعد محافظة؛ ولد الطفل “حمود” في 1- 7- 1359 الموافق 5/ 8/ 1940، وترعرع في قريته بين المراعي والمزارع في البلدة التي تُعد أقرب المدائن إلى قلبه، وقال عنها “ياقوت الحموي” في “معجم البلدان”: “رنية قرية في حد تبالة عن أبي الأشعث الكندي ويسكنها بنو عقيل، وهي قرب بيشة وتثليث وعقيق تمرة، وكلها لبني عقيل ومياهها بثور”، وقال حمد الجاسر: “رنية وادٍ واسع له روافد كثيرة، وفيه قرى ومزارع وسكان كثيرون”، وقال “ابن بليهد”: رنية باقية بهذا الاسم إلى هذا العهد، أهلها سبيع وهم بطن من بني عقيل.
شب حمود البراهيم على الكفاح وحب العمل والابتكار والتغيير والخروج عن النمط، وكان عصاميًّا جادًّا صارمًا متسامحًا، وفجأة وجد نفسه بعد وفاة أبيه مسؤولًا عن والدته وعائلته وإخوانه فكان يعمل نهارًا ويكمل دراسته ليلًا، ثم نال شهادة المرحلة الثانوية، ولأنه مختلف عن أقرانه فقد غادر في السبعينات الميلادية إلى الولايات المتحدة للدراسة، وقلبه معلق بالرياض؛ حيث والدته وأسرته، وعاد من واشنطن في عام 1977 متسلحًا بكالوريوس إدارة الأعمال.
كان أول قرار بعد عودته من أمريكا بيع منزله في سبيل تكوين رأس مال لبدء مشروعه الذي كان حلمًا يراوده طيلة دراسته في الخارج، وبالفعل نجح في تأسيس مؤسسة بندة للتجارة، ومقرها عبارة عن فيلا مستأجرة بحي الملز، ثم انطلقت خطوة الألف ميل بأول فرع بحي العليا لتتجاوز عددها الآن 200 فرع في مختلف مناطق المملكة بعد دخول عدة شركاء.
وللراحل حمود السعد البراهيم مع التجارة، قصة يرويها صديقه الشيخ أحمد بن حمد السعيد مالك ومؤسس مطاعم “هرفي”؛ وذلك في مقاله بصحيفة الاقتصادية 6 يناير 2010؛ حيث يقول: “كانت معرفتي بالأخ الرئيس المؤسس حمود البراهيم في أوائل عام 1981م؛ حيث قدمني إليه شقيقه إبراهيم بن سعد البراهيم، سفيرنا الحالي لدى الإمارات وزميل دراستي للماجستير في جامعة جنوب كاليفورنيا؛ وذلك بعد تركي عملي في إدارة مخابز وفندق السلمان في بريده، وعودتي إلى مدينة الرياض وهي تتدرج في رقيها وتوسعها التجاري والعقاري متأثرة بالانتعاش المالي الكبير الذي صبه في شرايينها الارتفاع الهائل في أسعار البترول من بداية عام 1974، وقبل معرفتي بالأخ أبو سعد؛ كان قد قام بتأسيس مؤسسة بندة المتحدة مع مجموعة كريمة من زملائه ومعارفه، من رجال الأعمال، والموظفين في الدولة، وكان عدد فروع بنده وقتها فرعين؛ أولهما في شارع الأمير سلطان (الثلاثين) بالعليا، وثانيهما في الملز في بداية طريق خريص”.
ويضيف “السعيد”: لا أعرف حقيقةً الآن من منا عرض على الآخر القيام بتأسيس شركة مطاعم شراكة بين مؤسسة بنده وبيني؛ ولكن الذي أذكره الآن، أن أفكارنا وطموحنا ورغباتنا قد اتحدت وتطابقت في ذلك اللقاء المبارك لتأسيس شركة مطاعم وطنية، وهذا ما كان بكل يسر وسهولة في الاتفاق والتأسيس 70% لبنده و30% لأحمد السعيد ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ولما قبلت بأقل من 50% من شركة هرفي؛ ولكنني -ولله الحمد- قانع وراضٍ بما قسمه الله”.
ويختتم حديثه التاريخي عن الراحل بقوله: “أما عن الفكر الاستراتيجي، واستمرارًا لحسه الوطني؛ فإنك تجد ذلك في ملامح وبصمات عديدة؛ منها أنه أول مَن بدأ استئجار الأرض لمدة طويلة تصل لـ20 عامًا وإقامة الأسواق عليها، كما تجده في إعطاء توكيلات أسواق بنده لعدد من المواطنين في منطقة القصيم، والمنطقة الشرقية، وحتى الدوادمي في ذلك الوقت المبكر؛ فهو إذًا أول من بدأ تطبيق نظام التوكيلات (THE FRANCHISE SYSTEM) في المملكة بهذا الحجم حسب ظني. ومن أهم ملامح إدارته وفكره الإداري؛ إعطاء الصلاحيات واللامركزية في العمل، وتوظيف الشباب السعودي في مراكز قيادية مهمة في إدارة أسواق بنده وإدارة المستودعات وحتى وظيفة (الكاشير) البائع؛ بل إنني أزعم وأعرف بعضًا ممن أصبحوا رجال أعمال كبارًا، وإداريين مرموقين، قد تخرجوا في مدرسة أبو سعد”.
ووفقًا لحديث رفيق دربه؛ فإن الراحل حمود البراهيم يحسب له مع “السعيد” أنهما أول من أدخلا وجبة “الهمبرجر” إلى المملكة، بشكلها البسيط، لتستطيع أن تطلبها الآن بـ”الحاشي المشوي” ولحم البط والديك وأسماك السلمون!
وعلى الصعيد الإنساني يروي “سعد” الابن الأكبر، أن والده كان قد عفا عن موظف لوجه الله فور تورطه باختلاس مبلغ كبير، كما أنه يوزع سلات غذائية من أسواق بنده لصالح الأسر المستحقة، ويتم خصم مبلغها من راتبه رحمه الله، إضافة لتأسيسه مطعمًا خيريًّا لتوزيع الوجبات على المحتاجين، وله أعمال في الخفاء لا يعرفها أحد، كما أنه حريص على دعم كل ما هو في مصلحة الوطن، فكان أول من بدأ بالسعودة وكان ينادي بها، وله مقالات في هذا الشأن في مجلة الغرفة التجارية.
ويشير “سعد” لموقف عالق في ذهنه، ويدل صراحةً على الجدية المطلقة وعدم الركون للراحة؛ وذلك عندما عاد “سعد” من دراسته وتخرجه من أمريكا؛ حيث وصل الرياض في المساء.. وفي صباح اليوم التالي يوقظه والده من النوم، ويطلب منه مرافقته للعمل! كما أنه بعيد عن المظاهر، وقريب من الزهد؛ مستشهدًا بآخر سيارة كانت معه من نوع مرسيدس موديل 1980، وكان أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج لمدة تزيد على 20 سنة إلى أن توفي في نوفمبر 2020، ورحل إلى الثرى بثراء تَمثل في حب متبادل للناس ومع الناس بكافة شرائحهم وطبقاتهم وأجناسهم، ومحبة كل من عرفه وتعامل معه وسمع به.