القراءة في عالم يأخذك بعيدا
بقلم :أيمن العتوم
القراءة فنّ، فنّ مُكتَسب، لقد قالوا عن الشّعر الذي يتنزّل به وحي الشّعور إنّه صنعة، أفلا تكون القراءة حِرفة يُمكن اكتسابها، وتغذيتُها!!
القراءة كالرّياضة تحتاج إلى لياقة حتّى تُثمر وتؤتي أكُلَها، حين تركض مئة متر ربّما تلهثُ في البداية، تُفكّر في ألاّ تعود إلى الرّكض مرّة أخرى، تُقسم أنّ المسافة طويلة، وأنّ طاقتك لا تحتمل، والقراءة حالةٌ مُشابهة، تُمسك الكتاب بين يديك، ربّما ترميه خلف ظهرك بعد ربع ساعة، تقول: أشعر بالنّعاس كلّما قرأت، لا أفهم شيئًا.القراءة سياحةٌ في عقول الآخرين، تفتح لك النّوافذ على المطلق، وترتقي بك في آفاق لا يحدّها حدّ
لا أدري لماذا يُتعب النّاس أنفسهم بالقراءة؟! هذا هو شعور الّذي لا يملك اللياقة في القراءة. الصّبر حلٌّ لأولئك الّذين يستعجلون النّتائج، لا يُمكن أن تقطف الثمرة بعد غَرْس البذرة مباشرة، عليك بعد أن تغرسها أن تتعهّدها بالنّماء والسّقاية والرّعاية حتّى تكبر، وتتابعها يومًا بعد يوم، لتُعطي ثمرًا حُلوًا ناضِجًا.
الّذين يشعرون بالملل من أوّل كتابٍ قرؤوه عليهم أن يُقاوموا هذا الملل بالتّصميم على المتابعة، وحينَ يُكره الإنسان نفسه على ما لا تشتهي في البداية ستأتيه هذه النّفس في النّهاية بما يشتهي، وليعلم القارئ أنّ الفكرة -كما يقولون- ثمرةُ إدامة النّظر؛ فعلى القارئ أن يُديم النّظر فيما يقرأ حتّى يحوز الفكرة الّتي لها من المُتعة ما يفوق المُتع الحسّيّة مجتمعةً.
هناك من يقرأ من أجل المتعة، فالقراءة بها وسيلته للاستمتاع، وهناك من يقرأ من أجل أن ينمّي عقله وفكره وقدراته، ويرتقي بها، وفي رأيي أنّ الأمرين مطلوبان معًا، نقرأ لنستمتع ولكي نصل إلى ما نريد.
جيلي -جيل التّسعينيّات- لم يكن في أغلبه قارئًا، كان من اللافت للنّظر والمثير للاستغراب أن ترى طالبًا جامعيًّا، يصعد الباص المتوجّه إلى الجامعة وفي يديه كتابٌ يقرؤه، كان ذلك أمرًا مستهجنًا إلى حدٍّ ما، وكثيرًا ما كنتُ أسأل أحد أبناء جيلي مثلاً: ماذا قرأتَ هذه الأيّام؟! فيردّ باستخفاف: أنا لا وقتَ لديّ لأقرأ، ووقتي لا يكفي لقراءة كتبي الجامعيّة، بالطّبع هذا جواب العاجز والجاهل معًا.
كثير منّا في تلك الأيّام لم يكنْ -لجهله- يُدرك أنّ القراءة سياحةٌ في عقول الآخرين، وأنّها تفتح لك النّوافذ على المطلق، وأنّها ترتقي بك في آفاق لا يحدّها حدّ.
نوادي القراءة موضةٌ انتقلتْ من الغرب إلينا بسبب الانفتاح على الآخر الّذي وفّرته وسائل التّكنولوجيا الحديثة
بالنّسبة لجيل اليوم أعتقد أنّ مُلهياته عن القراءة أكثر من جيلي في التّسعينيّات، ولكنّه – في الحقيقة- يقرأ أكثر من ذلك الجيل، ربّما أعزو السّبب إلى وجود وسائل الاتّصال الحديثة وشبكات التّواصل الاجتماعي الّتي عرّفتْ هذا الجيل بتجارب القرّاء في الغرب وأمريكا، فنوادي القراءة هي موضةٌ انتقلتْ من الغرب إلينا بسبب الانفتاح على الآخر الّذي وفّرته وسائل التّكنولوجيا الحديثة.
أنا أعتقد أنّها موضة جميلة ومحمودة، وجذبتْ كثيرًا من القرّاء إلى ساحتها، وأتمنّى ألاّ تكون عابرة، وأن يستمرّ هذا الاحتكاك اللطيف مع الحرف، وهذا الاشتباك الجميل مع الكتاب.
عزوف الشباب اليوم عن القراءة كان يُقابله عزوف أشدّ من جيل العَقدين السابقين، التسعينيّات وبداية القرن الجديد، أرى أنّ هذا الجيل انجذب إلى القراءة -وإن بدرجات بسيطة ومتفاوتة- أكثر من سواه.
لكنْ فيما لو أردْنا أن نشير إلى بعض الأسباب الّتي جعلتْ القراءة عاملاً طاردًا للشباب لا جاذبًا لهم، فأهمّها: الثقافة الاجتماعيّة الّتي ليس في قاموسها فكرة: أنّ القراءة مثل الخبز والماء لا يُمكن الاستغناء عنها. هذه الفكرة أشدّ وضوحًا وتطبيقًا في الغرب، إنّها إذًا ثقافة مجتمع، نحن نحمل -في الأعمّ الأغلب- ثقافة مُغايرة، ثقافة: وماذا سأستفيدُ لو فتحتُ كتابًا؟ ماذا ستستفيد؟ بل قل لي: ماذا ستخسر لو فتحتَ كتابًا؟
المُلهيات هذه الأيّام كثيرة، والتّحدّيات أكثر، وحينَ تصبح ثقافة تنشئة النّشء والجيل على القراءة مثل تنشئتهم على الطّعام والشّراب، حينئذٍ سنصبح قادة؛ ومِمّا لا شكّ فيه، أنّ القادة هم القُرّاء؛ اقرأ تكنْ قائدًا؛ فالقراءة مصباح الدّجى، ومنارة الطّريق، وهادية الظّلمات!!