أدب السُّجون وشقوق الظلام
بقلم الكاتبة: ليلى القحطاني.
طالما كان الفضول يخلق في أنفسنا سحائبَ من خيالٍ خصبٍ، وطالما اتَّكأ الكاتب على عنصر الفضول والإدهاش، والتشويق والمفاجأة ليكون لكتاباته معنىً رزين، فكلّ كاتب لا يكتب لنفسه، بل يكتب لتسير الركبان بسطوره إلى أبعد مدى …
ومادة أدب السجون هي أكثر المواد التي تثير مخيّلة القارئ وتجعله يبحث بين السطور عن شيءٍ يُجيب عن تلك الأسئلة، وبما أنّني سيّدة لا أقوى على الألم؛ قراءةً وتعايشاً، فإنّني لا أبحث بين الكتب عن شيء من حياة السجين، ذلك لأرأف بقلبي عن قراءة ما يجعله يئنُّ ويتألّم. إلا أنَّ قراءاتي المتتابعة في كلّ فنٍّ أوقعت عدّة كتب وروايات في هذا الفنّ بين يديّ، وجعلت أنفاسي تتسابق لأدلف إلى هذا العالم من خلال قراءاتي … ومع هذا فقد قدّرَ الله لي أن أدخل السجون كمدربة تنمية فكرية وأساهم في تقديم عدة دورات للسجينات، لكنّني كنت أحترم مهابة صمتهنّ، ولا أتطرّق إلى قضاياهنّ، فكنت أقدِّم الدورة وكأنّها لأشخاص خارج الأسوار لكنّ عقلي يكاد ينفجر لكثرة التساؤلات التي تُثار فيه، فكم من شابّة صغيرة في مُقتبل العمر يترقرق ماء الشباب في وجنتيها خلف القضبان، أجدها تتّكِئ أمامي لتستمع لي بإنصاتٍ، فمهما كان فحوى كلامي فهو مقبول لديهنّ للهفتهنَّ لمعرفة أخبار الخارج. أنا بالنسبة لهنّ جسر يصلهنّ بالعالم الخارجي وكأنّ الحديث الذي يدور في السرائر يقول: هذه حديثة عهدٍ بالشمس والضياء والهواء، يلتصق بجسدها بقايا نور، ونسيمٌ من نسائم الصباح …
لا أعلم هل الكتّاب الذين تناولوا أدب السجون قد كتبوا من مخيّلتهم أم أنّهم فعلاً عاشوا التجربة، بالنسبة لدوستويفسكي فقد كتب عن تجربة حقيقيّة وسبر أغوار أنفسِ السجناء واستطاع أن يصوّر لنا مشاعرهم وأحاسيسهم، بل وانفعالاتهم ليس بالخبرة فقط بل بالعلم والمعرفة. فمترجم الرواية (الجريمة والعقاب) الدكتور شوقي حداد ذكر أكثر من مرّة عنه أنّه عالمٌ نفسيّ، لكن آل مرضمة في رواية (خلف الأبواب الصغيرة) استطاع تصوير السجن بكلّ زواياه وهو لم يقع تحت رحى التجربة، بل إنّه جعل القارئ ينفعل مع الأحداث إلى تلك الدرجة التي تحرّكت فيها جوارحه من الشعور المتأثّر بوصف الروائح الكريهة ومنظر السجّان الكئيب القاطب لجبينه، وحالة السجناء السابقين ووصفهم للجديد من السجناء (المستجدّ). وكذلك تشابه آل مرضمة مع دويستفسكي في وصف السجّان بأنّه غليظ وبشعٌ ويدُعُّ بيده الغليظة السجناء ويدفعهم إلى الداخل وهناك وصف آل مرضمة النوم المتقشّف على فراش تفوح منه روائح العرق وربّما الدم، والذي قد مرّ عليه سجناءٌ بلا عدد ثم يكون هو الخيار الوحيد. هناك يهابُ السجينُ السجنَ الانفرادي أو كما وصفه الكاتب حسن آل عقيل في رواية (يوسف بلا أسباط) “قبر الدنيا” لأنّها مظلمة ولا يتسلّل إليها إلا نورٌ بسيط قد سرق من وهج الشمس شعاعاً. لكن آل عقيل في روايته انفرد بفكرة وضع الرواية السجنيّة بحسب أحداث أيام الأسبوع، فكلّ يوم من أيام الأسبوع له أحداثه المتكرّرة عبر السنوات، فمثلاً يوم الثلاثاء عيادة طبيّة، ويوم الخميس محاضرةٌ دينيّة، وتتكرّر ممّا يجعل الأحداث متسلسلة بحسب ترتيب إدارة السجن للبرامج الخاصّة بالسجناء، ويشترك كُتّاب أدب السجن في وصف الحالة النفسية للشخصية المحورية في الرواية، بأنّها شخصية يقرضها الندم في البداية، ثم الشعور بالنفور وعدم الرغبة في الاستسلام والانسكاب مع الواقع الراهن وانتظار أحداث الخارج، وانتظار المعجزة التي قد تفكّ أسوار السجن لذلك أطلق آل مرضمة على روايته (خلف الجدران الصغيرة) وكأنّه يصوّر حالة السجين (حمد) النفسية وهو يرى أنّ هذه الجدران صغيرة لأنّه ينتظر معجزة توقظ (نادية) من غيبوبتها ليخرج من السجن بالبراءة. كلّ السجناء في الثلاث روايات يعودون بذاكرتهم إلى الوراء ويسردون الأحداث التي جعلت منهم مجرمين يقتصّ منهم القانون رغم أنّهم ضحايا في قرارة أنفسهم فهم وإن استحقّوا العقوبة إلاّ أنّ المحيط الذي دفع بهم لارتكابها قد نجا من ذات العقوبة وزجَّ بالمغفَّل كما وصف آل مرضمة شخصية (حمد) السجين في السجن … لن يُفارق الإدهاش والتوتر من يقرأ رواية (خلف جدران صغيرة) خصوصاً من يبحث عن مكان أحداث الرواية، فيبدو أنّ الكاتب استعاض عن ذكر المنطقة التي حدثت فيها هذه الأحداث بالأسماء، فمن يعرف جغرافية البشرية لمناطقنا سيعرف أين تقع الأحداث من معرفته لأسماء الشخصيات، ويؤكّد ذلك اسم (بيومي) (وزكرياء) هذه الأسماء تخبرنا أي المناطق تتسمّى بها…
وبغضّ النظر عن المقارنة بين الروايات الثلاث فما يجعلها تتّسقُ في مسارٍ واحد هو الحياة خلف تلك الجدران العملاقة، واليقين أنّ وراءها من القصص والآلام والأحلام، ما يجعل القارئ ينمو لديه الفضول لمعرفة المزيد، ولهذا فقد اتّسمت رواية (خلف الجدران الصغيرة) بالحُبكة الدرامية التي تجعل العاطفة في توقّدٍ، وتجعلها متنوعة بين غضبٍ وشفقة، وحُزنٍ واستبشار دون أن يبسط التفاصيل التي قد يعمد إليها بعض الروائيّين، ممّا يجعل الفكرة مشتّتة ويُسيطر الملل على القارئ فيسقط خيط العاطفة الذي كان قد بدأ يستثار في بداية الحدث. رغم أنّ الرواية قد نشرها آل مرضمة في عام ٢٠١٤ إلا أنّها رواية متجدّدة يجد القارئ أحداثها بيّنةً وكأنّ (ماجد) ذلك الخذول يتكرّر في كلّ محيط، وحمد ذلك الساذج موجود في شخصيات تعيش بيننا ولا ترعوي ممّا حدث لها من خذلان وغدر الصاحب، ثم يجعل نفسه ضحيّة بسبب ثقة ليست في محلّها.
أدب السجون لا أظنُّ أنّ كلّ كاتبٍ يستطيع أن يسبر أغواره ويصوّر حالة السجين وخصوصاً ذلك السجين الرافض لواقعه. أمّا المتعايش فقد نكس راياته ورضي أن يكون جزءًا من القضبان والجدران المتشقّقة، نعم قدّر الله لي أن أدرّب في السجون لكنّني لا أستطيع تصوير التفاصيل اليومية الحياتية بالدقّة التي تجعل القارئ ينجذب من فكرة إلى أخرى حتماً سينقطع من يدي خيط الأفكار ولن أحيط كتابةً بالمشاعر والآمال والترقّب والاستبشار للذي يسكن في أنفس السجناء… وكذلك التركيز على الرؤى والأحلام التي يهرب إليها السجين، لتكون متنفّساً له فهو نائم بجسده واعٍ بمخيّلته كما وجدنا ذلك في رواية (خلف الجدران الصغيرة) وذلك حين يدخلنا الروائي في حدث ناعم ونتتبّعه بالاستبصار ثم يكون في النهاية مجرّد حُلم ٍيوقظه من لذّته السجين المجاور… أعود لفيدور دوستويفسكي الذي كان سجيناً أصلاً بسبب معارضته للحكم القيصري وانضمامه لحركة تراشيفسكي الثورية وحكم عليه بالإعدام، ثمّ عفا عنه القيصر هو والثوّار الذين كانوا معه وحكم عليهم عام ١٩١٧ بالأشغال الشاقّة. إذن! فإذا كتب دوستيوفسكي عن مشاعر وآلام السجينة فهو يكتب عن تجربةٍ حيّة حقيقية شاهدها وتعايش مع تفاصيلها… وقد كتب على لسان (راسكولنيكوف) الشخصية الرئيسة في الرواية [لا أهوى حياة السجن ولا العمل الشاقّ ولا الطعام، ولا الرأس الحليق ولا الثياب المتّسخة ،كانت تستطيع النيل منه] وقال عن التمايز والطبقية بين السجناء [في السجن محكومون بجرائم سياسية كانوا ينظرون إلى الآخرين باحتقار] بل كان يعاني من سخرية السجناء منه، وأنّهم يلاحقونه بالسخرية جاعلين من جريمته (قتل السيدة المرابية) مادةً للسخرية والهُزء …
هذه صورة من واقع السجناء فبحسب تحليل دوستويفسكي يصنعون لهم عالماً آخرَ يشبه العالم في الخارج من طبقية وتمييز بين مستويات الناس وهيمنة بعضهم على بعض وفرض السيطرة رغم ضعف المقومات، لكي تكون أداةً السيطرة هي الخوف الذي يسكن السجين الأقل حظًّا في المواجهة… ولا أظنّ عنصر التجربة متوفراً في آل مرضمة و آل عقيل كما في دوستويفسكي! في الروايات الثلاث التي قرأتها في أدب السجن غالباً السجين محور الرواية يلزم نفسه ويعيش حالة من الندم وجلد الذّات ممّا يجعل أسوار السجن أخفّ ممّا يعانيه فسجنه في ذاته أعمق وأكبر وقعاً على نفسه … ولنقول أنّ دوستويفسكي كتب الرواية ومثل أحداث مرّت عليه وشاهدها فماذا نقول عن الكاتب الأديب سعيد آل مرضمة الذي بحث حالة السجين منذ أن دلف من بين الأبواب الموصدة حتى خرج من السجن على لسان حمد السجين المهزوم، الذي وقع ضحيّة صديقه ماجد، فالذكاء أن يتقمّص الروائي شخصيةً ليست شخصيته، ثمّ يصوّر كامل المشاعر والمواقف وكأنّه أمام مرآةٍ تعكس لنا حقيقةً لا نشكُّ فيها أبداً. هذا الذكاء في التقمّص اتّبعه كثير من الروائيين ومنهم (آل مرضمة) الذين يسردون حياة فتاةٍ مثلاً، أو جزئيات من حياة مُجرم أو يتقمّصون حياة مُغترب وغيرها، هذا التقمّص غير المتكلّف يجعل القارئ يدلف إلى زوايا الشخصية ويعيش التقمّص ذاته حتى يتحدّث باسم الشخصية المحورية وكأنّه هو ذاته من يتحدّث.
أدب السجون بعد مُتعة القراءة فيه أقول أنّ القارئ سيبقى عطشاناً للاستزادة منه متعةً ومعرفةً وكشفاً للخفايا.