«الأسد والحسن والحبيب» يسقطون فى شباك فاتنة الموساد والقذافي يقع في غرامها
حكت تامار فى يومياتها أن مدير الموساد كلفها بالسفر إلى العاصمة الصومالية «مقديشيو» كمراسلة لـBBC والأوبزرفر لتنفيذ سلسلة حوارات صحفية استراتيجية على هامش مؤتمر القمة الإفريقى، مع الرئيس التونسى «الحبيب بورقيبة» والملك «الحسن الثانى» عاهل المغرب، وأن تختم بقية اللقاءات المدبرة مع معمر القذافى فى طرابلس، ثم مع الرئيس السورى حافظ الأسد بدمشق فى سبتمبر 1975 بعد أن تذرع مكتبه بانشغاله الدائم.
شرح لها دافيد قمحى الأسلوب الأمثل للتعامل مع القذافى بسبب شراسته وتصرفاته غير المستقرة نفسياً وحبه لممارسة العنف مع النساء.
شرعت تامار فى عملياتها بإجراء حوار مع صديقها الحميم رئيس ساحل العاج هوبوا بوينى، ثم أجرت حوارها الثانى مع الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة لكنها فشلت لرفضه وتهربه من الإجابة عن سؤال رؤيته الخاصة لإمكانية توصل مصر وإسرائيل لاتفاقية سلام. بينما نجحت بحوارها الثالث فى انتزاع إجابة من الملك المغربى الحسن الثانى عن سؤال استراتيجى عندما كشف لها الملك مكنون رؤيته وخطته للسلام بالشرق الأوسط.
بعد ذلك فوجئت نقيبة الموساد بضابط ليبى يدخل إلى طائرتها وقدم نفسه باسم النقيب «موسى كوسا» بجهاز الأمن الليبى الخاص بالعقيد وأنه مكلف باصطحابها إلى مقر الزعيم «مهيب الركن».
اتفق اللواء إسحاق حوفى مدير جهاز الموساد الإسرائيلى مع العقيد الليبى معمر القذافى على التعاون فى مجال المعلومات أثناء المحادثة التاريخية بينهما فى تمام الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق ظهر الأربعاء 18 يونيو .1975
فى القاهرة تابع الرئيس السادات صفحات مفكرة يوميات تامار جولان وبحث مع اللواء كمال حسن على، سر اكتشاف العقيد القذافى لشخصية تامار الحقيقية ذلك اليوم الحار بليبيا فى يونيو 1975 وقد فزع السادات من حقيقة علاقة القذافى السرية مع إسرائيل.
بينما أشار اللواء كمال حسن على بنفس الجلسة إلى فقرة كشفت فيها تامار تفاصيل السر المسئول عنه ضابط فاسد برتبة رفيعة عمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الفرنسية الخارجية SDECEالتى جمدت فرنسا أنشطتها منتصف ستينيات القرن الماضى، عندما باع فى يناير 1974 عددا من الملفات التى سرقها من أرشيف هيئة الأمن القومى الفرنسى «عالية التصنيف» إلى العقيد القذافى مقابل مبلغ مالى كبير تصادف بينها ملف نقيبة الموساد التى عملت تحت غطاء صحفى وهوية فرنسية واتخذت من فرنسا مركزاً للانطلاق إلى أهدافها فى القارة الإفريقية.
الثابت أن جهاز الاستخبارات الفرنسى المعروف بالاسم المهنى المختصر SDECE _ تأسس عام 1947 – ثم جمدت جميع أنشطته الاستخباراتية فى ديسمبر 1965 وخضعت عملياته بعدها لإشراف وزارة الدفاع الفرنسية حتى إعادة تشكيله عام 1981 بعدما أكدت التحقيقات الرسمية التى أشرف عليها «جان فوير» وزير العدل الفرنسى الثابت شغله منصبه فى الفترة من 15 إبريل 1962 حتى 6 أبريل 1967 تورط SDECEمع جهاز الموساد فى عملية اغتيال المعارض السياسى المغربى «المهدى بن بركة» الذى خطفته عناصر فرنسية من شارع سان جيرمان بباريس وسلمته بنفس الليلة لمجموعة إسرائيلية – مغربية خاصة قتلته أثناء استجوابه لحساب الملك الحسن الثانى بأحد المنازل الهادئة فى ضاحية «فونتى لو فيكونت» شمال فرنسا بتاريخ 29 أكتوبر .1965
عقب انتهاء المكالمة الهاتفية الأولى بين العقيد القذافى وتل أبيب تجرأت تامار وسألت الزعيم الليبى عن السر وراء كشفه لهويتها فى وقت كانت استخبارات الجماهيرية فى بدايات تأسيسها دون خبرات وكوادر تمكنها من العمل بحرفية التجسس المضاد.
فضحك العقيد وأكد أنه سيخبرها بالتفاصيل على مائدة العشاء فطلبت منه معرفة موعد عودتها لباريس حتى ترتب أمورها ثم أبلغته أنها ما زالت بحاجة للحديث الصحفى كى تغطى نفسها ونفقاتها أمام فرع الشئون الإفريقية لدى شبكة BBC وجريدة الأوبزرفر البريطانيتين التى عملت ذلك الوقت لحسابهما، فوعدها بمنحها الحديث على العشاء وطلب منها أن تشعر بالحرية فى قصره وكلف ضابطه المخلص موسى محمد كوسا بمرافقة تامار وأن يحضرها فى الثامنة مساء إلى غرفة الطعام فأدركت بخبرتها أن العقيد بدأ يعاملها كضابطة اتصالاته السرية مع تل أبيب.
فوجئت تامار فى غرفتها بهدية أرسلها العقيد القذافى عبارة عن سلة زهور نادرة اعتبرت فى تلك الفترة ثروة طبيعية قطفت للتو من مزارع حدائق قصر باب العزيزية حملتها سيدة ممشوقة القوام قدمت نفسها باسم «عائشة» مساعدة شخصية بالجهاز الخاص بالعقيد وأنها كلفت بمساعدة تامار طيلة فترة تواجدها بليبيا.
سجلت تامار المدربة على دقة الملاحظة أن كوسا أوصى «عائشة» بخدمتها وأن الأخيرة لم تبدو لها كضابطة ليبية بل كانت فتاة بيضاء قوية البنيان يشع منها الذكاء العربى المثير بما يكفى أن تخدم بكل مكان.
عقب خروج رجل العقيد من غرفتها فوجئت تامار بالمساعدة «عائشة» تعرض معاونتها حتى فى تجهيز الحمام وأنها أبهرتها بخبراتها المتعددة بداية من مهارتها بالتدليك وكأنها متخصصة يابانية إلى توفير ملابس السهرة التى تماشت مع آخر خطوط الأزياء العالمية يومها كى ترتديها تامار بمناسبة العشاء الخاص مع العقيد.
تعدت مهارات «عائشة» أسوار قصر العقيد واكتشقت تامار أنها خبيرة فى مجال التجميل وقد عاونتها على انتقاء أحدث أدوات الماكياج بالعالم فى تلك الفترة أحضرتها باتصالاتها المحلية الخاصة حتى شعرت تامار مثلما سجلت وكأنها أميرة لليلة واحدة فى حريم قصر باب العزيزية بطرابلس. أزال العقيد القذافى المحاذير الأمنية على تجول تامار جولان داخل أسوار قصره ومنح موسى كوسا صلاحيات مرافقتها كضيفة مهمة ورأتها تامار فرصة فطلبت منه الكاميرا الخاصة بها لحاجتها لالتقاط عدد من الصور الفوتوغرافية للمكان لاستخدامها فى سبق إعلامى رتبت له لحساب شبكة BBC الإخبارية وصحيفة الأوبزرفر البريطانيتين، فوافق ورد إلى تامار الكاميرا ثم طلب منها عدم تصوير المنشآت الرئاسية والعسكرية داخل المجمع لأنه ممنوع حتى على العاملين بالأمن الخاص بالزعيم الليبى وأن تكتفى بتصوير الحدائق النادرة ومسجد إدريس والأسوار فأبدت تفهماً كاملاً.
أمضت تامار بقية اليوم فى ملل تام واشتاقت إلى مظاهر الحياة المدنية الأوروبية الباريسية الصاخبة التى حرمت منها يومين وانتظرت موعد العشاء حتى تتعرف على حدود تعاونها المستقبلى مع استخبارات الجماهيرية وخطة العقيد القذافى فى التعامل معها وتشغيلها.
بينما تذكرت نبرته الواثقة عندما أكد لها – مساء الثلاثاء 17 يونيو 1975 – أنها ستعمل معه لا محالة تحت أية ظروف ومهما كانت الوسيلة، ومثلما سجلت بمفكرة يومياتها لم يقلقها ذلك فى حينه بل تعاملت مع الموقف وكأنه سيناريو تمثيلية استخباراتية خطرة لعبت فيها على الرغم منها دور ضابط الاتصال بين العقيد والموساد.
وكان عليها أن تجاريه فى خطته مهما كانت حتى تعود إلى إسرائيل لتحصل على التعليمات النهائية والكاملة من قائدها المباشر دافيد قمحى وفى الحقيقة أمرها قمحى بذلك فى المكالمة التى قدمت خلالها العقيد إلى اللواء حوفى ظهر الأربعاء 18 يونيو .1975
مع اقتراب موعد مأدبة العشاء عاد إليها موسى كوسا ولاحظت أنه خلع بزته العسكرية وارتدى بدلة رسمية كاملة وفى الأثناء انتهزت تامار الفرصة واستغلت خبرات «عائشة» فانتقت «موديل» لثوب سهرة أبيض وحذاء فرنسى بنفس اللون أجبر العقيد القذافى على التصفيق لها بيده عندما شاهدها تدخل عليه بصحبة ضابطه المخلص.
تحينت تامار الخبيرة فى استخدام أسلحة أنوثتها الفتاكة الفرصة وطرقت على الحديد وهو ساخن فسألت العقيد للمرة الثانية عن كيفية كشفه لشخصيتها الحقيقية وذكرته بكلماته إليها ووعده أنه سيخبرها بالتفاصيل على مائدة «عشاء المكاشفة» بينهما على حد تعبيره.
وتعمدت ضابطة الموساد الخبيرة بأساليب التعامل مع قادة الدول الأفريقية الجلوس بشكل ملاصق بجوار مقعد القذافى لدرجة أن يديه ارتطمت عدة مرات دون قصد منه فى البداية بجانب ثديها الأيمن لكنها لم تبد اعتراضا أو ملاحظة بل تركته يلهو قليلاً على حد قولها.
اللافت أن تامار مثلما سجلت قصدت عدم التعقيب على تصرفاته بعد أن رصدت فى اليوم السابق بوادر مرض القذافى بأعراض شهوة كانت تنتابه كلما شعر بإخضاع أنوثة النساء من حوله لرجولته ولرغباته.
حتى كتبت باليوميات تقول: «طبقت تلك الليلة المثيرة فى طرابلس كل ما تعلمته من دروس ضمن برنامج التأهيل للعملية فى مدرسة الاستخبارات بتل أبيب خاصة درس أسلحة المرأة الفتاكة وشعرت بالفخر لأن الطريقة لم تنجح فقط بل منحتنى السيطرة التامة على العقيد القذافى».
شارك الرئيس السادات اللواء كمال حسن على الذى عاونه فى تحليل معلومات يوميات نقيبة الموساد رغبة تامار فى معرفة سر اكتشاف العقيد القذافى لحقيقة شخصيتها ووقف الاثنان أمام التفاصيل التى رواها العقيد.
عقب انتهاء أمسية العشاء – مساء الأربعاء الموافق 18 يونيو 1975 – اصطحب الزعيم الليبى ضيفته الحسناء إلى المرساة الرئاسية داخل ميناء طرابلس على رصيف بحرى خاص يطل على البحر الأبيض المتوسط.
أصبحت تامار جولان وجهاً لوجه مع القذافى دون رجاله وحراسه لأول مرة بعد أن طلب منهم الانتظار على الشاطئ فقاد اليخت الرئاسى بنفسه باتجاه عمق البحر فى مناخ ساحلى شبه ساكن غابت عنه الرياح مع نسمات صيف جاف وساخن تهب من آن لآخر وأضواء مدينة طرابلس تبتعد عنهما بالتدريج بينما تتراقص الأعلى والأقوى منها فى الأفق خلف اليخت وهى غارقة فى مخاوف رهاب البحر الذى عانت منه منذ طفولتها.
اعترفت تامار فى يومياتها أنها لم تأمن جانب القذافى ولو للحظة واحدة على اليابسة فما بالك فى عرض البحر وقد دارت برأسها عشرات الأسئلة التى أثارت كل مخاوفها الأكثر رعباً حتى قطع العقيد السكون وسألها مباشرة عن رأيها فيه كقائد لأمة كبيرة مثل ليبيا؟
تطالعون أسراراً حصرية وردت فى يوميات شخصية «سرية للغاية» لنقيبة الموساد تامار جولان كسرت مصر شفرتها وترجمتها حكت فيها صاحبتها أنها شعرت فى تلك اللحظة وكأن القذافى رمى إليها طوقاً للنجاة فاستحضرت أكاذيب أسطورية وصفت بها شخصيته كزعيم عظيم حتى تضخم أمامها وأصبح على وشك الانفجار الذاتى.
أصابت تامار المرعوبة من البحر فى تلك الأثناء مفتاح شخصيته بشكل مباشر فكسرته حتى شرع القذافى المزهو بنفسه إلى حد الغرور فى سكب مكنون أكثر الأسرار الليبية حساسية وسرية على الإطلاق فى حجرها.
كشف القذافى أن الرئيس الفرنسى الجنرال «شارل ديجول» – الثابت توليه منصبه فى الفترة من 8 يناير 1959 حتى 28 إبريل 1969 – كلف جهاز استخباراته بمتابعة نشاط صحفية إسرائيلية أقامت فى باريس عام 1963 بشكل دائم اتضح أن لها علاقات قوية بالموساد.
أنصتت تامار باهتمام بالغ إلى القصة وتمنت لو أن جهاز التسجيل معها حتى تخلد الرواية الأصلية على لسان العقيد القذافى كما حكاها تلك الليلة على اليخت الرئاسى على بعد كيلو مترين من شاطئ مدينة طرابلس داخل ظلام البحر الأبيض المتوسط الحالك.
فى التفاصيل كشف العقيد القذافى لضيفته الفاتنة أن موسى كوسا ضابطه الشاب المرافق لها الذى تعاملت معه مرات عمل منذ عام 1970 بفرع أمن السفارات الليبية بأوروبا – تولى كوسا رئاسته عام 1979- وأن ذلك الفرع يعتبر من أقدم الأفرع العاملة فى جهاز استخبارات الجماهيرية.
ثم أثنى بشدة على كوسا وعدد أمامها مهاراته المهنية التى اكتسبها من علاقاته المتشعبة مع أجهزة الاستخبارات الغربية التى تعاون معها بمجال حماية وتأمين بعثات السفارات الليبية بالعواصم الأوروبية المختلفة.
وكشف القذافى لضيفته ضابطة الموساد أن موسى كوسا مثل نصف أحجية عملية كشف هويتها بينما أكمل النصف الآخر «موريس بابون» عضو مجلس النواب الفرنسى صاحب العلاقات السياسية المتشعبة والسبب الرئيسى وراء إماطة اللثام عن شخصيتها الحقيقية.
طبقاً لرواية القذافى تولى بابون إبان الحرب العالمية الثانية منصب السكرتير العام للشرطة الفرنسية السرية فى مدينة «بوردو» جنوب غرب فرنسا ثم عين عام 1958 قائداً لشرطة باريس وتدرج بعدها فى المناصب الشرطية ثم الاستخباراتية والسياسية والمدنية مستغلاً علاقاته المريبة.
فى مايو 1968 عين موريس بابون فى مجلس النواب الفرنسى كما خدم كوزير للميزانية بحكومة «رايموند بار» رئيس الوزراء الفرنسى الثابت شغله المنصب فى الفترة من 26 أغسطس 1976 حتى 22 مايو .1981
الثابت أن بابون قاد بصفته المسئول عن شرطة باريس حملة تعذيب السجناء السياسيين الجزائريين خلال الفترة من عام 1954 حتى عام 1962 وأنه أصدر الأمر بقتل ثوار الجزائر فى مذبحة باريس المروعة التى وقعت فى 17 أكتوبر .1961
الغريب أن بابون نال بسبب دوره فى المذبحة وسام جوقة الشرف – منحت لأول مرة فى 14 يوليو 1804 ـــ الفرنسية من الرئيس الفرنسى شارل ديجول لكنه جرد منها فى 18 نوفمبر 1999 عقب إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إبان الحرب العالمية الثانية.
وللتوثيق أجبر موريس بابون على التقدم باستقالته من قيادة الشرطة السرية عقب ثبوت تورطه بقضية اغتيال المعارض المغربى المهدى بن بركة لكنه لم يتقاعد بسبب علاقاته السياسية المثيرة للجدال وعين فى مايو 1968 نائباً بمجلس النواب الفرنسى.
حافظ موسى كوسا ضابط استخبارات الجماهيرية الليبية لأعوام على علاقته الخاصة مع بابون الذى اشتهر فى باريس بلقب «شارلوك هولمز» بعد نجاته من المساءلة الجنائية بقضية بن بركة حتى سقط فى يناير 1974 بأزمة مالية بسبب إدمانه المقامرة كادت أن تعصف بحياته السياسية.
فاستغل كوسا الذكى حالة السياسى الفرنسى الفاسد وذهب إلى العقيد القذافى مع مشروع استخباراتى اقترح خلاله تجنيد موريس بابون لحساب ليبيا وطلب من العقيد تخصيص ميزانية خاصة لتحقيق الهدف فوجدها القذافى فرصة ووعده بضمه لدائرة رجاله حالة نجاحه فى ذلك.
رفض موريس بابون فكرة تجنيده كعميل دائم لصالح جهاز الاستخبارات الليبية واتفق مع صديقه كوسا على تسليمه عدداً من ملفات الاستخبارات الفرنسية السرية للغاية سرقها عند استقالته واحتفظ بها للمقايضة عليها وقد حانت الفرصة مقابل تغطية ليبيا مديونيته وإنقاذه من فضيحة سياسية أوشكت على تدمير مستقبله.
أوفى موريس بابون بالمطلوب منه وفى يناير 1974 سلم الملفات إلى موسى كوسا فى العاصمة الإيطالية روما واتضح بعدها أنه اعتاد التعامل مع عدد من الأجهزة الأجنبية بمقابل مادى كان بينها الموساد الإسرائيلى نفسه.
فى التفاصيل تقابل موريس بابون مع موسى كوسا فى فندق «نابليون» – Napoleon الواقع بشارع Avenue de Fried landبالحى الثامن فى باريس وهو فندق صغير اعتاد ضباط أجهزة الاستخبارات الأجنبية على اللقاء بمصادرهم وعملائهم بداخله.
ويومها تسلم بابون مبلغ خمسين ألف دولار أمريكى قبضه سيولة أوراق صغيرة فئة العشرين دولار بناء على طلبه الخاص حتى لا يمكن للسلطات بعدها تتبع وإثبات ما تحصل عليه من ليبيا نظير خيانته وفساده.
وفى المقابل سلم إلى موسى كوسا ملفات ثلاثين عملية استخباراتية عالية التصنيف سرقت من أرشيف وكالة الاستخبارات المركزية الفرنسية تصادف أن بينها ملف ضابطة الموساد تامار جولان المقيمة بالعاصمة الفرنسية باريس تحت هوية صحفية متخصصة فى الشئون الأفريقية.
أدركت تامار فى تلك اللحظة السر الحقيقى وراء اكتشاف جهاز استخبارات الجماهيرية لهويتها وبات عليها الانتظار لحين كشف غموض بقية الرواية على لسان العقيد القذافى الذى دار ساعتها باليخت الرئاسى الليبى باتجاه مرساته الخاصة فى ميناء طرابلس.
تأبط القذافى على الشاطئ ضيفته واستمر فى سرد تفاصيل روايته وسمعت تامار لأول مرة أن الجهاز الفرنسى راقبها ورصد نشاطها المكثف بباريس وتأكد من عملها لحساب الموساد وأن ملفها الشخصى طرح للتباحث ضمن اتفاقية التعاون الاستخباراتى الموقعة عام 1956 بين باريس وتل أبيب.
وأن التعاون المثمر بين الجهازين انتهى بتزويد تامار جولان بهوية فرنسية سليمة سمحت لها باستخدام الغطاء الفرنسى والعاصمة الفرنسية باريس كمنطلق لعملياتها المختلفة داخل الدول الإفريقية هدف نشاطها. وأن الاتفاق أتاح لباريس استخدام معلومات تامار الخام فى حالة تهديدها المباشر للأمن القومى الفرنسى كما تعهد جهاز الموساد بعدم الضرر بالمصالح الفرنسية بدول إفريقيا السوداء.
المثير أن العقيد القذافى فجر دون قصد أحد الأسرار الأكثر غرابة على الإطلاق عندما حكى لها أن السلطات الفرنسية شكت فى مطلع عام 1965 أن تامار جولان هى نفسها «فيرناند جرودى» الشهيرة بلقب «مدام كلود» أشهر «قوادات» الدعارة بالتاريخ الفرنسى الحديث.
وطبقاً لرواية القذافى الحصرية إلى ضيفته رصدت الشرطة الفرنسية فى نفس الفترة تردد تامار جولان عدة مرات فى صيف 1965 على دير للراهبات أكدت المعلومات أن «مدام كلود» التى لم تكن ملامحها الحقيقية معروفة لأحد حتى تلك الفترة تربت ونشأت داخله.
ومع أن الفارق فى أعمار الاثنتين ناهز العشر سنوات لأن تامار جولان مواليد 18 ديسمبر 1933 بينما فيرناند جرودى من مواليد 6 يوليو 1923 استمرت الشرطة السرية الفرنسية فى خلطها بين الاثنتين.
حتى قطعت الاستخبارات الفرنسية ذلك الشك وأكدت أن تامار لم تكن فرنسية أصلاً وأنها أقامت بالعاصمة باريس بموجب اتفاقية أمنية خاصة «سرية للغاية» بين فرنسا وإسرائيل.
فى تلك الأثناء بدأ موسى كوسا بداية من شهر فبراير 1974 البحث عن تامار جولان فى باريس وقد رقى مثلما وعده القذافى بسبب نجاحه بعملية بابون وشغل منصباً قيادياً بارزاً لدى فرع أمن السفارات الليبية الذى ضم إلى جهاز استخبارات الجماهيرية عقب حرب أكتوبر .1973
فى الحديث أكد لها العقيد القذافى أنه دفع من ماله الخاص المقابل المالى للملفات الفرنسية الثلاثين السرية للغاية التى وجد بينها ملفها الشخصى وأنه أمر فى البداية بخطفها إلى ليبيا وتصفيتها جسديا إذا فشلت العملية.
حتى توصل موسى كوسا فى أول مارس 1974 إلى مسكنها فى باريس وراقب صالونها الثقافى حتى تأكد اعتمادا على صورها وبياناتها المسجلة بملف الاستخبارات الفرنسية من شخصيتها وكشف هويتها لكنه احتفظ بالأمر لنفسه واستمر فى متابعتها على أمل تحقيق نصر استخباراتى إضافى على حسابها.
عانت استخبارات الجماهيرية بتلك المرحلة الزمنية من قلة الموارد البشرية المدربة ومن نقص بالوسائل التكنولوجية الحديثة وكان العمل يدار بشكل يدوى حال دون متابعة نشاط تامار خارج فرنسا وكان كوسا الضابط الليبى الوحيد العالم بتفاصيل الملف الخاص بها، حتى حدثت واقعة شديدة الغرابة قلبت الأمور وأصبحت العملية وكأنها سيناريو فيلم حركة أجنبى وفى تلك الأثناء كلف الموساد تامار بالسفر إلى العاصمة الصومالية مقديشيو لتغطية فعاليات قمة منظمة الوحدة الإفريقية الثانية عشرة – التى تقرر عقدها فى الفترة من 12 حتى 16 يونيو 1974 – حيث كلفها نائب مدير الموساد دافيد قمحى بإجراء سلسلة من الحوارات الصحفية مع عدد من القادة الأفريقيين بينهم العقيد معمر القذافى الذى منح الإعلام الغربى السبق مما شجع تامار على التقدم للسفارة الليبية فى باريس بطلب لعمل حوار خاص مع العقيد لحساب شبكة الأخبار BBCوصحيفة الأوبزرفر البريطانيتين.
اقتربت الساعة من الحادية عشرة والنصف مساء الأربعاء 18 يونيو 1975 ومثلما سجلت بمفكرة يومياتها عاد العقيد القذافى بها إلى حدائق قصر باب العزيزية وعندها أعلن حاجته للنوم وأن يلتقيا صباح اليوم التالى لاستكمال الحوار الصحفى الذى اعتقدت ساعتها أنها لن تناله أبداً.
وقبل أن يتركها رفع القذافى يده اليمنى بإشارته الغريبة التى شاهدتها باليوم السابق فظهر «الجنى» – كما أطلقت عليه – رجله المفضل موسى كوسا بصحبة حرسه الخاص فألحت تامار حتى يكمل لها باقى الرواية المثيرة.
فضحك العقيد ووافق على أن يتركها بعدها مباشرة ثم حكى لها أن الأمر كان بالنسبة له عقب تقدمها من تلقاء نفسها بطلب رسمى إلى سفارة ليبيا فى باريس لعمل حوار صحفى أشبه بروايات أفلام العميل البريطانى الأسطورى «جيمس بوند» الشهير بلقب 007 وأنه وافق لها على الحوار لأهمية شبكة BBC وصحيفة الأوبزرفر من الناحية الدعائية لليبيا لكنه لم يكن يعرف شخصيتها نهائياً بتلك المرحلة كما لم يكن لديه سبب حتى يربط بينها وبين صاحبة ملف الاستخبارات الفرنسية الغامضة والأهم أن موسى كوسا لم يبلغ قيادته وقتها أنه توصل إليها وكشفها وخشى حدوث خطأ من جانبه فقرر الاستمرار فى متابعتها عن كثب.
واستمر الموقف على ذلك المنوال حتى راجع كوسا بطريق الصدفة البحتة ألبوما للصور الحديثة التقطتها عناصر مدربة من استخبارات الجماهيرية صاحبت الوفد الليبى الرسمى فى مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بالصومال.
وكانت المفاجأة غير المتوقعة أنه تعرف على صور تامار جولان بين الحضور فبحث عنها فى الصومال لكنها كانت قد غادرت مقديشيو قبلها بساعات قليلة إلى باريس وأصبح كوسا مضطراً لإخطار العقيد القذافى للتصرف واتخاذ القرار.
سألت نقيبة الموساد العقيد القذافى عن تصرفه عندما علم فابتسم وحكى لها عن تصميم موسى كوسا على الوصول إليها وقد تعثر فيها بظروف لا يمكن تكرارها، حيث تعرف عليها بالسفارة الليبية فى باريس أثناء استلامها التصريح الخاص بالسفر إلى ليبيا لعمل الحوار الصحفى مع العقيد. فسافر على أول طائرة إلى طرابلس وقابل العقيد القذافى وشرح له الموقف فأبدل الزعيم الليبى أمر خطفها وتصفيتها ذلك اليوم ثم وقرر استدراجها إلى الكمين الذى حضرت إليه طواعية عندما حدد لها صباح الثلاثاء 17 يونيو 1975 لإجراء الحوار الصحفى معه.
بعدها صمت العقيد لثوان قليلة ثم تحدث إلى تامار وهو يضحك بنبرة الانتصار الهادئة التى درستها وأصبحت تعرفها جيداً وقال: «أنت تعرفين بقية الأحداث التى وقعت منذ وصولك والآن سأتركك لتنامى وسأفعل مثلك وفى الصباح سنتفق وأعدى نفسك لأنك عائدة إلى باريس عصر الغد الموافق الخميس 19 يونيو 1975».
تنفست تامار الصعداء ورافقها موسى كوسا إلى غرفتها حيث وجدت بانتظارها المساعدة «عائشة» وقد رتبت أغراضها وحقيبتها بجانب جواز سفرها وبداخله بطاقة السفر الخاصة بالخطوط الجوية الفرنسية مختومة مع تأكيد حجز المغادرة.
مرت ساعات ليل طرابلس ثقيلة وطويلة على ضابطة الموساد تامار جولان التى استيقظت عند الفجر على أصوات أذان مساجد المسلمين وكأنها تحاصر غرفتها من كافة الاتجاهات تماماً مثلما حدث أثناء ليلتها الأولى فى ليبيا.
وكأنه اعتاد على ذلك طرق موسى كوسا رجل العقيد المخلص باب غرفتها فى تمام الساعة السابعة صباح الخميس 19 يونيو 1975 وعلى وجهه تلك الابتسامة الغريبة غير المفهومة ليبلغها أن العقيد القذافى سيكون بانتظارها على الإفطار فى تمام الساعة الثامنة.
ثم أغلق كوسا الباب وعندما ابتعدت أصوات أقدامه أرخت تامار غطاء فراشها وقفزت من تحته عارية كعادتها فى النوم ثم بحثت عن مساعدتها «عائشة» لكن الأرض انشقت وبلعتها.
وبات واضحاً أن مهمة تلك السيدة انتهت عند ذلك القدر فأسرتها تامار بنفسها حيث رغبت فى وداع «عائشة» التى بقيت بعدها مجرد ذكرى لسيدة ليبية ذات مواصفات خاصة قابلتها خلال رحلتها المثيرة إلى طرابلس فى صيف يونيو .1975
قابل العقيد القذافى ضيفته نقيبة الموساد على مائدة الإفطار لكنه تعمد عدم الخوض بأية تفاصيل خاصة بعدها صحب تامار فى جولة انتهت داخل مكتبه بأحد الملاحق الرئيسية داخل قصر باب العزيزية.
وعندما جلست تامار أمامه وهو جالس على مكتبه الرئاسى لاحظت ملفاً سميكاً حمل صورتها الشخصية وكتب عليه اسمها الثنائى ببنط أسود عريض ورقم 333 أدركت بخبرتها أنه رقم عملية استخبارات الجماهيرية بشأن استدراجها إلى ليبيا.
فتح العقيد الحديث وأكد أن ليبيا لن يمكنها كشف بياناتها الشخصية إلى أى طرف ثالث بالعالم طالما حافظت هى وقيادتها على اتفاق تبادل المعلومات وفتح قناة الاتصال الذى تقرر يومها توقيعه لاحقاً بالتبادل السيادى فى تل أبيب أولاً وبعدها بطرابلس للتوثيق، ثم أخبرها أنه بصدد إيفاد ضابط ليبى مسئول إلى قيادة الموساد وأنه سيستقبل بعدها بليبيا دافيد قمحى نائب رئيس الجهاز الإسرائيلى قائدها المباشر للتوقيع على اتفاقية التعاون فى مجال تبادل المعلومات.
بعدها مباشرة شرع القذافى فى تلقين تامار أسلوب الاتصال بها عند حاجته وأثناء الحديث قدم لها هدية غريبة عبارة عن وشاح متعدد الألوان أكد أن نوعه نادر صمم خصيصاً لها فاعتذرت بشدة مؤكدة أنها لا ترتدى منذ وفاة زوجها سوى الملابس البيضاء فقط.
فضحك العقيد القذافى وكشف لها أن الوشاح ليس هدية بالمعنى المتعارف عليه لكنه مجرد وسيلة للتعارف ثم طلب منها حفظ ألوانه عن ظهر قلب حتى إذا قابلت أحد الأيام سيدة ما ترتديه بأى مكان فى العالم أن تعلم أنه أرسلها شخصياً بطلبات محددة سيكون عليها نقلها بأسرع وسيلة ممكنة إلى قيادتها فى جهاز الموساد.
ثم أخبرها أن ذلك اليوم سيكون آخر الفرص التى ستقابله فيها على الطبيعة وجهاً لوجه وحذرها وسط الحديث من مخاطر خيانته وحكى لها أنه أخفى عليها مساء الليلة السابقة أثناء تواجدهما على يخته الرئاسى فى عرض البحر الأبيض المتوسط كى لا يخيفها أن هناك من سبقها فى تلك الجولة لكنه لم يعد إلى شاطئ طرابلس مرة ثانية واختفى للأبد، فأومأت تامار برأسها – ومثلما سجلت – كادت ساعتها أن تبتلع أنفاسها من تأثير تهديد العقيد القذافى الجاد ثم سألته عن بقية الطلبات فأكد لها أن المسألة أبسط مما تعتقد حيث يقتصر دورها على توصيل خطاباته عند الضرورة إلى تل أبيب بشرط السرية التامة، مؤكداً أن كثيرين لم يقدروا قصده وفقدوا حياتهم بسبب خيانتهم للسرية.
وقبيل الوداع سلمها العقيد القذافى ظرفاً احتوى مبلغاً كبيراً من المال لم تحصل على مثيله بحياتها كهدية خاصة منه وعندما رفضت تامار تسلمه غضب بشدة وأكد أن تصرفها يعنى لديه عدم موافقتها على التعاون التام معه والإخلاص له، فاضطرت لقبول الظرف مؤقتاً كى لا تغضبه ثم سجلت فى يومياتها أنها سلمت المبلغ كاملاً إلى قائدها دافيد قمحى مع تقريرها النهائى المكتوب عن مجمل تفاصيل الأحداث التى مرت عليها منذ مغادرتها مطار «أورلى» صباح الثلاثاء 17 يونيو .1975
انتهى فصل يوميات ضابطة الموساد مع العقيد القذافى بينما تشوق الرئيس السادات واللواء كمال حسن على لمطالعة وقائع رحلة تامار بداية شهر سبتمبر 1975 لمقابلة الرئيس حافظ الأسد بالعاصمة السورية دمشق مثلما حدد لها مكتبه قبلها بشهور.
الجدير بالذكر أن تامار زارت السفارة السورية الكائنة بتلك الفترة الزمنية بفيلا 22 شارع بوليفارد سوشيه باريس – مقر سفارة موناكو حالياً – وقابلت صباح الاثنين الموافق 3 يونيو 1974 الدبلوماسى «أحمد عبد الكريم» السفير السورى فى فرنسا.
فى اللقاء سلمت تامار طلباً مهنياً ببياناتها كمراسلة لصحيفة الأوبزرفر البريطانية لإجراء حوار صحفى مع الرئيس حافظ الأسد ووعدها السفير ببحث الموضوع لكنه طلب منها التمهل حتى ترد دمشق على ضوء جدول مواعيد الرئاسة المتاحة وقد تأخر الرد شهورا.
فى تمام الساعة الثامنة صباح الاثنين الموافق 25 أغسطس 1975 رن جرس الهاتف فى غرفة نوم تامار بباريس وعلى الطرف الآخر سفير سوريا أحمد عبدالكريم – الثابت شغله المنصب خلال الفترة من 30 سبتمبر 1971 حتى 16 فبراير .1978
وأبلغها السفير أن الرئاسة السورية فى دمشق أرسلت للتو التصريح الخاص بالموافقة على حوارها الصحفى الذى طلبت إجراءه مع الرئيس حافظ الأسد وأن عليها التواجد فى دمشق صباح الاثنين الموافق 1 سبتمبر 1975 مع مستندات عملها كمراسلة لصحيفة الأوبزرفر البريطانية.
وأكد السفير السورى إلى تامار أنها ستجد بانتظارها فى مطار العاصمة دمشق – افتتح عام 1975 – ممثلا من وزارة الخارجية السورية وآخر من مكتب الرئيس الأسد لمرافقتها إلى مقر الرئاسة.
وصلت تامار إلى دمشق فى الموعد المحدد لها ووجدت بانتظارها أسفل الطائرة سيارة خاصة حملت لوحات فرع مراسم رئاسة الجمهورية السورية ومثلما أخبرها عبد الكريم استقبلها شخصان قدما نفسيهما باسمى «أبو حبيب» و«أبو كريم» ربما لم تكن أسماؤهما الحقيقية مثلما سجلت باليوميات.
قطعت سيارة مراسم الرئاسة السورية الخاصة الطريق فى أقل من 15 دقيقة حتى دخلت حى المهاجرين جنوب جبل قاسيون فى دمشق حيث «قصر تشرين» مقر الرئيس السورى حافظ الأسد.
بينما جلست تامار بالمقعد الخلفى صامتة منفصلة عن المشاهد الخلابة التى مرت عليها تعد الدقائق لتنفيذ المهمة التى كلفها بها منذ شهور نائب مدير الموساد دافيد قمحى لطرح بعض الأسئلة ذات الطابع الاستراتيجى على حافظ الأسد لكشف ردود أفعاله لإمكانية عقد اتفاقية سلام مصرية – إسرائيلية منفردة.
فى قصر تشرين سلمت تامار حقيبتها الوحيدة لرجال أمن الرئاسة السورية حيث خضعت أغراضها لتفتيش روتينى دقيق وفى هذه الأثناء فوجئت بشخص بدت عليه علامات العظمة والسلطة يناديها بلقبها «مدام جولان» وفى يده جواز سفرها الفرنسى.
التفتت تامار إلى الرجل المهم الذى قدم نفسه باسم اللواء «عدنان باباغ» مدير إدارة الأمن العام الفرع الخارجى – الاستخبارات السورية – الثابت شغله المنصب فى الفترة من عام 1971 حتى نهاية عام 1975
صافحها اللواء باباغ وأخبرها أنه سيصحبها إلى مكتب الرئيس حافظ الأسد ثم طلب منها الجلوس دقائق لتناول مشروب سريع وفى الأثناء يتعرف على أسئلتها التى ستطرحها على الرئيس وألا تعتبر ذلك تدخلاً فى حرية عملها الصحفى لأنها إجراءات روتينية ليس إلا، فسلمته تامار نوتة أوراق كبيرة احتوت على كل الأسئلة التى أعدتها مسبقاً لطرحها على الرئيس حافظ الأسد وبينها بالقطع تلك التى أعدها دافيد قمحى فطالع اللواء عدنان باباغ بشكل عام نقاط الحوار ثم أعاد لها النوتة وشكرها على المجهود وأكد عدم اعتراضه.
ثم شرع بسؤال تامار عن بعض الأسئلة الشخصية والعامة بأسلوب محترف أظهر لها قوة الاستخبارات السورية وحرفية ضباطها حتى سجلت باليوميات انبهارها من طريقة تحاور الرجل الذى سألها عن السبب الذى جعلها تتخلى عن جواز سفرها الإسرائيلى وأن تحضر إلى دمشق بجواز السفر الفرنسى؟
مثلما سجلت تامار بمفكرة يومياتها لم يفاجئها سؤال باباغ المباغت ولا علم الاستخبارات السورية بجنسيتها الإسرائيلية بعد ظهورها عشرات المرات فى أفريقيا وأوروبا بهويتها الأصلية كصحفية دولية متخصصة بالشئون الأفريقية حتى كتبت تقول عن الواقعة:
«كانت جنسيتى الإسرائيلية معلومة لمعظم أجهزة الاستخبارات القوية عام 1975 بل هدفت خطة العملية لترسيخ غطاء عملى الصحفى لحساب وسائل الإعلام الأجنبية الشهيرة وطالما انحصرت معلومات الجميع فى تلك النقطة ظل الأمر عادياً وبات خطر كشف حقيقة عملى لحساب الموساد من المستحيل».
ومن الحوار تأكدت تامار جولان المدربة أن مجرد علم الاستخبارات السورية بمعلومة جنسيتها الإسرائيلية لم يسبب لها المشاكل فى دمشق بل لم يعترض اللواء عدنان باباغ خاصة بعدما أبلغته أنها ليست مواطنة مقيمة فى دولة إسرائيل وأنها صحفية دولية.
عملت بشكل رسمى محترف لحساب قسم الشئون الإفريقية لدى صحيفة الأوبزرفر وشبكة BBCالبريطانيتين فى باريس وأن كل ما يربطها بالدولة العبرية ديانتها اليهودية وعائلتها التى توفى معظم أفرادها.
هنا أدرك الرئيس السادات واللواء كمال حسن على أن سوريا لم تكشف أبداً تامار جولان وأن الرئيس حافظ الأسد تعامل معها حتى آخر وقت على أساس أنها صحفية محترفة لها علاقات سياسية دولية متشعبة وربما فكر ساعتها الاستفادة منها بمرحلة مستقبلية.
على ضوء الوقت المتاح بجدول أعمال الرئيس السورى شرعت تامار فى إجراء الحوار الصحفى المسجل مع الأسد والمثير أنه وافق على منحها الحوار لأهداف سورية سياسية دعائية بحتة بينما حاورته هى تحقيقاً لأهداف استخباراتية خالصة للموساد.
فى الحوار الذى أفرغت تامار أسئلته فى مفكرة يومياتها أعلن الرئيس حافظ الأسد بوضوح رفضه لسياسات الرئيس المصرى محمد أنور السادات بشأن تقاربه مع الغرب وسعيه لعقد اتفاقية سلام باسم كل الدول العربية مع إسرائيل وكشف بجلاء أنه سيعمل على منع مصر من تحقيق «السلام المنقوص» بأى ثمن على حد تعبيره إلى تامار يومها.
لكنه قبل لأول مرة مبدأ التفاوض مع إسرائيل على وضع هضبة الجولان السورية المحتلة شريطة حفظ تل أبيب للسرية التامة فانتهزت تامار المدربة الفرصة وسألت الأسد طبقاً لخطة أسئلة دافيد قمحى عن رأيه المبدئى حول بدء التفاوض على إعادة رفات «إيلى كوهين» الجاسوس الإسرائيلى الذى أعدم بالعاصمة السورية دمشق بتاريخ 18 مايو 1965 فأبدى الأسد مرونة حقيقية غير مسبوقة فى إجابته بقوله:
«لا تشكل رفات جاسوس حكم عليه وأعدم وانتهى مسألة عناد لدى سوريا حتى تصر على الاحتفاظ بها لأجل الذكرى والتفاوض عليه مهم لتحقيق مصالح سورية قومية هى بالأساس حق مشروع للشعب السورى».
انتهز الرئيس حافظ الأسد فرصة الحوار – الذى لم يستغرق أكثر من ساعة – لكسب صداقة وود تامار جولان وسألها عن قوة علاقاتها مع الساسة بإسرائيل فأكدت أن لديها قنوات صحفية محترفة ومفتوحة مع من يريد التواصل معه فى تل أبيب. وعددت أمامه الأسماء من مفكرتها الشخصية فانبهر الرئيس الأسد وأكد لها أنه سيحتاج لخدماتها فى المستقبل القريب وأنه سيأمر لها بمعاملة خاصة بالسفارة السورية بباريس حتى تتواصل معه شخصياً وقتما تشاء.
وقبل أن تخرج صافحت تامار الرئيس الأسد وعرضت عليه أن يختبرها إذا قرر التفاوض بسرية تامة مع الحكومة الإسرائيلية لإعادة رفات إيلى كوهين فطلب منها تأجيل سفرها إلى باريس ليلة واحدة تنزل فيها ضيفة خاصة على الرئيس السورى شخصياً حتى يتشاور مع مستشاريه فوافقت وهى تكاد تقفز لنجاحها فيما فشل به العشرات وقد حققت أكثر من المطلوب منها فى خطة دافيد قمحى.
عقب خروجها من مكتب الرئيس الأسد وجدت تامار اللواء عدنان باباغ مدير إدارة الأمن العام – الاستخبارات السورية – كما تركته يجلس بقاعة الانتظار وقد أغلق سماعة الهاتف لتوه فشكرته على كرم الضيافة السورى فأكد لها أنها لم تر الكرم الحقيقى بعد وصحبها إلى خارج القصر.
رافقهما ثلاثة موظفين من الرئاسة السورية أحدهم حمل لها الحقيبة والآخر فتح لها باب سيارة رئاسية خاصة انتظرتها وقبل أن تستقلها أبلغها باباغ أن الرئيس الأسد أمره بالتأكد من راحتها فى سوريا وأنهم أعدوا لها برنامجاً مكثفاً لزيارة دمشق وقال لها:
«ستتذكرين تلك الجولة القصيرة بدمشق طيلة حياتك سيدة جولان وتأكدى أن سوريا لا تنسى الأصدقاء الأوفياء لها واعتبرى نفسك ببلدك وعندما تعودين من جولتك ستجدين بانتظارك أجمل الغرف بملحق قصر الضيافة فى 'تشرين' وصدقينى أنت من اليوم شخصية مهمة للغاية عندنا.. تمنياتى بجولة سعيدة».
قبل أن تتحرك السيارة تذكرت تامار جولان أن عليها إرسال برقية فورية تحررها بطريقة مشفرة لا يمكن الشك فيها إلى فرع الشئون الأفريقية فى صحيفة الأوبزرفر مكتب باريس.
وطبقاً للمتفق عليه معها لن تصل تلك البرقية إلى الأوبزرفر بل ستذهب مباشرة إلى جهاز الموساد بتل أبيب حتى يقف دافيد قمحى واللواء اسحاق حوفى على تطورات العملية التى انتظرا نتيجتها بفارغ صبر.
فسألت تامار اللواء عدنان باباغ عن إمكانية إرسال برقية عاجلة لمكتب صحيفة الأوبزرفر التى عملت لحسابها فى العاصمة الفرنسية باريس فأكد أنها ستجد تسهيلات عالية المستوى لدى عودتها من الجولة ستمكنها من الاتصال بكل مكان فى العالم عدا إسرائيل بالطبع على حد تعبيره الساخر.
شعرت تامار بتلك اللحظة مثلما سجلت فى مفكرة يومياتها بنشوة نجاح مهمتها وقد أرسلت عقب عودتها إلى ملحق الضيافة فى قصر تشرين مساء الاثنين الموافق 1 سبتمبر 1975 تلك البرقية المشفرة غير المباشرة إلى قيادة جهاز الموساد فى تل أبيب.
أبلغت تامار فيها قيادة جهاز الموساد قرار الرئيس السورى حافظ الأسد غير المسبوق فتح قناة تفاوض – سرية للغاية -مع إسرائيل وموافقته المبدئية على إعادة رفات «إيلى كوهين» الجاسوس الإسرائيلى الأشهر لجهاز الموساد فى الدول العربية.