أزمة الغاز في أوروبا والصين سيعقبها أزمة الحبوب في الدول العربية
يتابع العالم، في رعب وهلع، غرق أغنى مناطق العالم، وأكثرها تقدماً، في أزمة الطاقة الشديدة، والتي اندلعت فجأة، ودون شروط خاصة مسبقة فيما يبدو.
ففي أوروبا، تسبب اللعب بدمية “الطاقة الخضراء”، والمحاولات الانتحارية لقطع جسور التعاون في مجال الغاز مع روسيا، ارتفعت أسعار الغاز إلى ما يقرب من 2000 دولار لكل 1000 متر مكعب من الغاز، ما أدى إلى توقف بعض شركات الصناعات الكيماوية. وعلى الرغم من انخفاض طفيف في الأسعار بعد الذروة، وفي ظروف شتاء بارد هذا العام، قد تواجه أوروبا كارثة اقتصادية واجتماعية.
وفي الصين، وعلى خلفية ارتفاع أسعار الفحم، تواجه أكثر من نصف مقاطعات البلاد قيوداً على إمدادات الكهرباء، التي تؤثر بالفعل على إنتاج البلاد وصادراتها. وعلى الرغم من الإجراءات العاجلة التي اتخذتها الحكومة، إلا أن الصناعة والسكان قد عانوا من انقطاع الكهرباء في عدد من المقاطعات الشمالية، التي تتعرض لطقس بارد.
بعد الصين، ظهرت مشكلات الطاقة في الهند أيضاً. لم يسلم لبنان هو الآخر من انقطاع التيار الكهربائي بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وربما لن تكون تلك هي آخر منطقة أو دولة سنسمع منها قريباً هذه الأخبار.
تبدو التفسيرات في الصحافة مختلفة، بينما تتجاهل الصحافة الغربية السبب الرئيسي، وهو بداية تسارع التضخم العالمي نتيجة ضخ البنوك المركزية لأكبر دول العالم دولارات ويورو وين ويوان غير مغطاة على المدى الطويل. كذلك أصاب الحجر الصحي المصاحب لوباء كوفيد-19 الخدمات اللوجيستية، وسلاسل الإنتاج، وخلق نقصاً في البضائع، على خلفية أن فائض الأموال غير المغطاة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى زيادة في أسعار كل السلع.
وبالفعل، بدأت أسعار المواد الغذائية في التسارع منذ نهاية العام الماضي. ووفقاً لوكالة “إنفولاين” Infoline الروسية، فقد نما مؤشر أسعار الغذاء العالمي بنسبة 27% لهذا العام، وهو ما لم يكن عليه الحال في الأربعين عاماً الماضية.
إن المنطقة العربية لا تتمتع باكتفاء ذاتي فيما يتعلق بالطعام، وفي حال انقطاع الإمدادات لأي سبب من الأسباب، حتى ولو لفترة قصيرة، ستصبح هذه المنطقة مسرحاً لأزمة غذائية وإنسانية حادة. بل إن وقوع تلك الأزمة لا يحتاج حتى إلى توقف كامل للتجارة، وإنما يكفيه الجمع بين الزيادات في الأسعار مع نقص بسيط في الغذاء، لتنطلق شرارة الأزمة.
وهذه هي الظروف التي تظهر هذا العام: فوفقاً لتقرير وزارة الزراعة الأمريكية لشهر سبتمبر، سيبلغ إنتاج القمح العالمي لهذا العام 780 مليون طن، والاستهلاك العالمي هو 790 مليون طن. في الوقت نفسه، من المتوقع أن ينخفض المحصول في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وروسيا مقارنة بالعام السابق. وعلى الرغم من أن جزءاً من الفارق سيتم تغطيته من المخزونات القديمة، إلا أنه من الواضح تهيئة الظروف لعجز ومزيد من النمو في أسعار الخبز.
ومع ذلك، هناك عامل آخر أيضاً. فالحبوب والغذاء، وعلى أقل تقدير، بالأحرى ستكون سلعة استراتيجية حتى أكثر من الطاقة، وربما تستخدم بنجاح أكبر كسلاح اقتصادي، أو وسيلة دعم للحلفاء.
وقد رأينا، أثناء الحجر الصحي خاصة نهاية العام الماضي، وعندما بدأت أسعار المواد الغذائية في الارتفاع، كيف فرض أكبر منتجي الحبوب حظراً أو قيوداً على التصدير، من أجل ملء السوق المحلية، وخفض الأسعار لسكانهم. في حالة اندلاع التضخم العالمي المفرط، غالباً ما سوف يكون قرار تصدير الغذاء إلى الخارج ذا طبيعة سياسية، وسيتم اتخاذه اعتماداً على العلاقات بين البلدان. على سبيل المثال لا الحصر، وعلى خلفية ما نلاحظ من الاحتكاك الراهن بين فرنسا والجزائر، وفي سياق أزمة الغذاء العالمية، قد يؤثر ذلك أو حتى سيجعل من المستحيل توريد القمح الفرنسي إلى الجزائر.
وانتهى الكرنفال بالنسبة للحكومات العربية
علاوة على ذلك، فمع اقتراب الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى المرحلة الساخنة، ينقسم العالم إلى معسكرات بكل ما تحمله الكلمة من معنى العزلة عن المعسكرات الأخرى، بما في ذلك القضاء على الروابط التكنولوجية والاقتصادية.
لهذا، توقفت الصين عن شراء الفحم الأسترالي، وتوقفت الولايات المتحدة عن إمداد محطات الطاقة النووية في الصين باليورانيوم، بينما تحاول أوروبا، وإن لم تنجح، تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
كذلك فإن حصة روسيا في إنتاج القمح العالمي كبيرة بشكل غير متناسب، فهي تصدّر الآن الحبوب، بما في ذلك إلى حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. في المقابل، لن تكون الحبوب التي تنتجها الولايات المتحدة وحلفاؤها كافية لجميع أفراد معسكرها.
وعليه فإن أي طارئ، سواء كان ذلك تفاقم المواجهة الأمريكية الروسية، أو انهيار النظام الاقتصادي العالمي، سيخلق صدامات شديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، الذين سيتعيّن عليهم الاختيار بين الجوع أو التعاون مع أعداء الولايات المتحدة، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سياسية. وأظن أن واشنطن ستختار الجوع بالنسبة لعدد من هذه البلدان.
ومع ذلك، لم يصل العالم بعد إلى مثل هذه المواقف المتطرفة، إلا أن ارتفاع أسعار الغذاء العالمية في الأشهر المقبلة سيوجه ضربة للميزانيات والاستقرار السياسي في عدد من الدول التي تستورد الغذاء، وفي المقام الأول الدول العربية.
المحلل السياسي/