لهذا السبب رفض علي صالح مقابلة أحدصحفي صحيفة اليمامة السعودية قبل ثلاثة عقود ..؟
قال الكاتب الصحفي ادريس الدريس أنه قبل ثلاثة عقود سافرت إلى اليمن، وكان حينها مديراً لتحرير مجلة اليمامة، وهناك دخل كمايقول مندهشاً في تلافيف اليمن وتفاصيلها. اليمن في كل اختلافاتها وخلافاتها وتفاصيلها لا تشبه إلا اليمن، وهي في كل حال لا تشبه غيرها على الإطلاق، لأنها تجمع في تعرجاتها وارتفاعاتها ومنحدراتها شيئا من عالم مضى وعالم حاضر، بل إنك قد تجد مكاناً حياً بأهله وعاداته وطقوسه لم يتغير كما كان عليه حاله قبل 300 عام وأكثر.
هناك يمن ماكث في البعيد، وهنا يمن يعيش زمننا الحاضر، حتى إنك تكاد تلمس نكهة التاريخ ورائحته في بعض الأدوات الزراعية وأدوات البناء ووسائل النقل، كما يتجسد الماضي في الشكل الظاهري للإنسان اليمني الذي يبدو كذلك بملابسه وهو يتخصر بالخنجر في وسطه، فيما يحيط رأسه بعقد من الفل والريحان.
تعمد كثير من الدول التي غادرت الماضي إلى جمع آثارها وموجوداتها التاريخية في متحف أو مزار يقصده الناس ليطلوا من هذه “الفرجة” الصغيرة على التاريخ وعلى وقائع زمن مضى، أما في اليمن فإن التاريخ لم يعزل حتى الآن في متحف لأن الماضي ما زال متعايشاً مع الحاضر وهكذا فلا حاجة بك إلى دفع رسوم لدخول المتحف، فاليمن كلها متحف واليمن هي مزيج الماضي العريق والحاضر الغريق.
وقال أنه تشكل لديه انطباع عن اليمن حينما قال منذ أول يوم وطئت قدماي أرض صنعاء، وبالفعل اندمجت في تفاصيلها اليومية وجدول أهلها منذ الصباح وحتى موعدهم الثابت والصارم مع جلسات المقيل التي تشتعل من الظهر، ويستمر فيها مضغ القات وتخزينه حتى السابعة أو الثامنة مساء، وقد لاحظت بعد أيام أن كل اليمنيين يخزنون القات ولا يكاد ينجو من هذه العادة المتأصلة إلا القليل الأقل منهم.
وقد حضرت جلسات للمقيل عند الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء، ثم جلسات أخرى في مدينة كوكبان مع الثلاثي الكوكباني، ثم جلسة ثالثة مع السيد درهم نعمان محافظ مأرب، ثم مع الدكتور أبوبكر السقاف رئيس تحرير “اليمن تايمز” رحم الله من مات منهم.
كانت مجالس القات عامرة بالتنوع البشري والفكري وبالحوارات الساخنة والباردة والمعتدلة والشاطحة، وبسبب هذا الاندماج كتبت سلسلة تحقيقات صحفية لنشرها في مجلة اليمامة، وكانت تحت عنوان “جئتكم من سبأ بنبأ يقين”، وكان عنوان الحلقة الأولى “في اليمن لا غالب للقات فكلهم يخزنون”، وعنوان الحلقة الثانية “صنعاء احتشاد المتماثل والمتنافر”، أما عنوان الحلقة الثالثة فكان يستشرف مستقبل الإنسان اليمني بعد ورود أخبار في ذلك الحين عن اكتشافات نفطية مشجعة في اليمن، فجاء العنوان هكذا: “اليمني مهاجر منذ انفجار السد حتى انفجار النفط”، باعتبار أنني قد توقعت أن يحد البترول من ترحل الأشقاء اليمنيين في المهاجر العربية وغير العربية.
المهم أنني قد حجزت خلال وجودي في صنعاء موعداً مع مكتب الرئيس علي عبدالله صالح لإجراء حوار صحفي لليمامة، وبالفعل قابلته في مكتبه فاعتذر عن إجراء الحوار مسجلاً بحجة انشغاله بانتخابات الحزب، لكنه طلب أن أترك أسئلتي لدى مدير مكتبه (نسيت اسمه بعد هذا الوقت الطويل) مع وعد بأن يتم إرسالها بعد الإجابة عليها، وقد رضخت لهذا الطلب، وتركت أسئلتي، ثم أخذت أتواصل مع مدير مكتب الرئيس والذي أخبرني بأنهم بالفعل مستمرون في إعدادها وتجهيزها، وفي يوم عودتي إلى الرياض وعدوني بإرسال الإجابات بالفاكس.
وعند عودتي للرياض قمت بنشر الحلقة الأولى من سلسلة كتاباتي وانطباعاتي عن رحلتي لليمن، وبعد نشرها بأيام اتصل بي مدير مكتب الرئيس، ففرحت بعد أن ظننت أنه قد تم استكمال إجابات أسئلة اللقاء الصحفي مع الرئيس علي عبدالله صالح، لكن مدير المكتب أخبرني بصوت خفيض وحرج ظاهر اعتذاره عن إرسال اللقاء، وطلب مني إلغاء الفكرة بعد أن أضاف: “شكلك زعلتهم يا أخ إدريس بعد كلامك عن القات، وتعدادك لسلبياته على الإنسان اليمني، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد والتنمية وعجلة الحياة التي تتعطل يومياً في اليمن من بواكير الضحى وحتى المساء”. وقلت له: “من هم الذين زعلوا”؟ فرد بقوله: “أعضاء حزب المؤتمر الشعبي وطبعاً فخامة الرئيس”!
ما زلت أتذكر هذه الواقعة وأنا ما زلت على يقين مستمر أن كل الذين حكموا اليمن من الإمامية وحتى التحول إلى الحكم الجمهوري كانوا عاجزين عن اجتثاث هذه الآفة التي شلت اليمن وعطلت حركته ومسيرته التنموية، لأن قرار منع القات لو تم كان سيواجه بمراكز قوى منتفعة من تكرسه كعادة يمنية يومية، لكنني بالمقابل موقن أن رجلاً بحجم علي عبدالله صالح وهو المتمكن بقوة والمتحكم لأكثر من 3 عقود في مصائر اليمن واليمنيين لم يكن يرغب في تخليص اليمن من القات، بل إنه حريص على استمرار اليمني مخدرا بهذه الآفة العشبية وعلى العكس من ذلك فإن بقاء “القات” وجلسات التخزين والمقيل اليومية هي أحد الأسباب الرئيسية التي أسهمت في استمرار رجل بحجم علي عبدالله صالح حاكماً لهذه البلاد خلال هذه السنوات الطويلة، وبالمقابل فإنني موقن أن انعتاق الإنسان اليمني من مشكلة تورطه في تخزين القات سيجعله يرفض أن يحكم اليمن من هم على شاكلة علي صالح وغيره من الذين جاؤوا إلى كرسي الرئاسة من الصفوف العسكرية والتعليمية الأدنى.
لكن علينا أن نتفاءل بعد “عاصفة الحزم” ثم “إعادة الأمل” في أن يعيش اليمن نقلة تصحيحية تسعى إلى إنقاذ اليمنيين من أفيونه التخديري “القات” الذي يحتاج حقيقة إلى ثورة تشبه ثورة القضاء على الأفيون في الصين والتي قادها الزعيم ماوتسي تونج، وبها عادت الصين إلى ركب الحضارة والتقدم وجعلتها في مصاف الدول العالمية الكبرى، وهذا ما نرجوه لأشقائنا في اليمن حين يعود سعيداً بإذن الله.